فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثالث: أنه قال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} والعذاب العظيم يكون عذاب الكفر، فدل على أن عقاب هذا القاذف عقاب الكفر، وعقاب قذفه سائر المحصنات لا يكون عقاب الكفر الرابع: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بالبصرة يوم عرفة، وكان يسأل عن تفسير القرآن، فسئل عن تفسير هذه الآية فقال: من أذنب ذنبًا ثم تاب قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة، أجاب الأصوليون عنه بأن الوعيد المذكور في هذه الآية لابد وأن يكون مشروطًا بعدم التوبة لأن الذنب سواء كان كفرًا أو فسقًا، فإذا حصلت التوبة منه صار مغفورًا فزال السؤال، ومن الناس ذكر فيه قولًا آخر، وهو أن هذه الآية نزلت في مشركي مكة حين كان بينهم وبين رسول الله عهد فكانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة.
وقالوا إنما خرجت لتفجر، فنزلت فيهم والقول الأول هو الصحيح.
المسألة الثانية:
أن الله تعالى ذكر فيمن يرمي المحصنات الغافلات المؤمنات ثلاثة أشياء: أحدها: كونهم ملعونين في الدنيا والآخرة وهو وعيد شديد، واحتج الجبائي بأن التقييد باللعن عام في جميع القذفة ومن كان ملعونًا في الدنيا فهو ملعون في الآخرة والملعون في الآخرة لا يكون من أهل الجنة وهو بناء على المحابطة وقد تقدم القول فيه وثانيها: وقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ونظيره قوله: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} [فصلت: 21] وعندنا البنية ليست شرطًا للحياة فيجوز أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علمًا وقدرة وكلامًا، وعند المعتزلة لا يجوز ذلك فلا جرم ذكروا في تأويل هذه الآية وجهين: الأول: أنه سبحانه يخلق في هذه الجوارح هذا الكلام، وعندهم المتكلم فاعل الكلام، فتكون تلك الشهادة من الله تعالى في الحقيقة إلا أنه سبحانه أضافها إلى الجوارح توسعًا الثاني: أنه سبحانه بيني هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه ويلجئها أن تشهد على الإنسان وتخبر عنه بأعماله، قال القاضي وهذا أقرب إلى الظاهر، لأن ذلك يفيد أنها تفعل الشهادة وثالثها: قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق} ولا شبهة في أن نفس دينهم ليس هو المراد لأن دينهم هو عملهم.
بل المراد جزاء عملهم، والدين بمعنى الجزاء مستعمل كقولهم كما تدين تدان، وقيل الدين هو الحساب كقوله ذلك الدين القيم أي الحساب الصحيح ومعنى قوله: {الحق} أي أن الذي نوفيهم من الجزاء هو القدر المستحق لأنه الحق وما زاد عليه هو الباطل، وقرئ الحق بالنصب صفة للدين وهو الجزاء وبالرفع صفة لله.
وأما قوله: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} فمن الناس من قال إنه سبحانه إنما سمي بالحق لأن عبادته هي الحق دون عبادة غيره أو لأنه الحق فيما يأمر به دون غيره ومعنى {المبين} يؤيد ما قلنا لأن المحق فيما يخاطب به هو المبين من حيث يبين الصحيح بكلامه دون غيره، ومنهم من قال الحق من أسماء الله تعالى ومعناه الموجود، لأن نقيضه الباطل وهو المعدوم، ومعنى المبين المظهر ومعناه أن بقدرته ظهر وجود الممكنات، فمعنى كونه حقًا أنه الموجود لذاته، ومعنى كونه مبينًا أنه المعطي وجود غيره. اهـ.

.قال ابن عطية:

{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}.
قال سعيد بن جبير: إن هذه الآية التي تضمنت لعن القاذف وتوعده الشديد إنما هي خاصة في رماة عائشة، وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما بل هذه لجميع أزواج النبي عليه السلام، غلظ الله أمر رميهن لمكانهن من الدين، فلعن قاذفهن ولم يقرن بآخر الآية توبة ع وقاذف غيرهن له اسم الفسق، وذكرت له التوبة، وقالت جماعة من العلماء بل هي في شأن عائشة إلا أنه يراد بها كل من اتصف بهذه الصفة، وقال بعض هذه الفرقة إن هذه الآية نزلت أولًا في القاذفين، ثم نزلت بعد ذلك الآية التي صدرت في السورة التي فيها التوبة، وقد تقدم القول في {المحصنات} ما معناه، واللعنة في هذه الآية الإبعاد وضرب الحد واستيحاش المؤمنين منهم وهجرهم لهم وزوالهم عن رتبة العدالة، وعلى من قال إن هذه الآية خاصة لعائشة تترتب هذه الشدائد في جانب عبدالله بن أُبي وأَشباهه وفي ضمن رمي المحصنة رمي الرجل معها وقد يكون مؤمنًا، والعامل في قوله: {يوم} فعل مضمر يقتضيه العذاب أي يعذبونه {يوم} أو نحو هذا، وأخبر الله تعالى أن جوارحهم تشهد عليهم ذلك من أعظم الخزي والتنكيل فيشهد اللسان وقلب المنافق لا يريد ما يشهد به، وتشهد الأيدي والأرجل كلامًا يقدرها الله عليه، وقرأ جمهور السبعة {تشهد} بالتاء من فوق وقرأ حمزة والكسائي {يشهد} بالياء والدين في هذه الآية الجزاء ومنه قول الشاعر شهل بن شيبان الزماني: الهزج:
ولم يبق سوى العدوا ** ن دناهم كما دانوا

أي جازيناهم كما فعلوا مثل المثل: كما تدين تدان، وقرأ جمهور الناس {الحقُّ} بالنصب على الصفة للدين، وقرأ مجاهد {الحقُّ} بالرفع على الصفة لله عز وجل وفي مصحف ابن مسعود وأبي بن كعب {يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم} بتقديم الصفة على الموصوف ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: {يعلمون أن الله هو الحق المبين} يقوي قول من ذهب إلى أن الآية في المنافقين عبد الله بن أبي وغيره وذلك أَن كل مؤمن ففي الدنيا يعلم {أَن الله هو الحق المبين} وإلا فليس بمؤمن. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {إن الذين يرمون المحصنات}.
يعني: العفائف {الغافلات} عن الفواحش، {لعنوا في الدنيا} أي: عذبوا بالجلد، وفي الآخرة بالنار.
واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآية على أربعة أقوال:
أحدها: انها نزلت في عائشة خاصة.
قال خصيف: سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية، فقلت: من قذف محصنة لعنه الله؟ قال: لا، إنما أنزلت هذه الآية في عائشة خاصة.
والثاني: أنها في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، قاله الضحاك.
والثالث: أنها في المهاجرات.
قال أبو حمزة الثمالي: بلغنا أن المرأة كانت إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة، قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا: إنما خرجت تفجر فنزلت هذه الآية.
والرابع: أنها عامة في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن، وبه قال قتادة، وابن زيد.
فإن قيل: لم اقتصر على ذكر المحصنات دون الرجال؟
فالجواب: [أن] من رمى مؤمنة فلابد أن يرمي معها مؤمنًا، فاستغني عن ذكر المؤمنين ومثله: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل: 81] أراد والبرد، قاله الزجاج.
قوله تعالى: {يوم تشهد عليهم السنتهم} وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: يشهد بالياء، وهو إقرارها بما تكلموا به من الفرية.
قال ابو سليمان الدمشقي: وهؤلاء غير الذين يختم على أفواههم، وقال ابن جرير: المعنى: أن ألسنة بعضهم تشهد على بعض.
قوله تعالى: {يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق} أي: حسابهم العدل، وقيل: جزاءهم الواجب.
وقرأ مجاهد، وأبو الجوزاء، وحميد بن قيس، والأعمش: دينهم الحقُ برفع القاف {ويعلمون أن الله هو الحق المبين} قال ابن عباس: وذلك أن عبد الله بن ابي، كان يشك في الدين، فإذا كانت القيامة علم حيث لا ينفعه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{إن الذين يرمون} عام في الرامين واندرج فيه الراميان تغليبًا للمذكر على المؤنث.
و{المحصنات} ظاهره أنه عام في النساء العفائف.
وقال النحاس: من أحسن ما قيل فيه أنه عام لجميع الناس من ذكر وأنثى، وأن التقدير يرمون الأنفس {المحصنات} فيدخل فيه المذكر والمؤنث.
وقيل: هو خاص بمن تكلم فيها في حديث الإفك.
وقيل: خاص بأمهات المؤمنين وكبراهن منزلة وجلالة تلك فعلى أنه خاض بها جمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بتلك الصفات من الإحصان والعقل والإيمان كما قال:
قدني من نصر الخبيبين قدي

يعني عبد الله بن الزبير وأشياعه.
و{الغافلات} السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يجربن الأمور ولا يفطنّ لما يفطن له المجريات، كما قال الشاعر:
ولقد لهوت بطفلة ميالة ** بلهاء تطلعني على أسرارها

وكذلك البله من الرجال في قوله: أكثر أهل الجنة البله.
{لعنوا في الدنيا والآخرة} في قذف المحصنات.
قيل: هذا الاستثناء بالتوبة وفي هذه لم يجيء استثناء.
وعن ابن عباس أن من خاض في حديث الإفك وتاب لم تقبل توبته، والصحيح أن الوعيد في هذه الآية مشروط بعدم التوبة، ولا فرق بين الكفر والفسق وأن من تاب غفر له.
ويناسب أن تكون هذه الآية كما قيل نزلت في مشركي مكة، كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا: خرجت لتفجر قاله أبو حمزة اليماني، ويؤيده قوله: {يوم تشهد عليهم} وعن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن أُبَيّ كان يشك في الدين فإذا كان يوم القيامة علم حيث لا ينفعه.
والناصب ليوم تشهد ما تعلق به الجار والمجرور وهو ولهم.
وقال الحوفي: العامل فيه عذاب، ولا يجوز لأنه موصوف إلاّ على رأي الكوفيين.
وقرأ الأخوان والزعفراني وابن مقسم وابن سعدان يشهد بياء من تحت لأنه تأنيث مجازي، ووقع الفصل، وباقي السبعة بالتاء، ولما كان قلب الكافر لا يريد ما يشهد به أنطق الله الجوارح والألسنة والأيدي والأرجل بما عملوا في الدنيا وأقدرها على ذلك، وليست الحياة شرطًا لوجود الكلام.
وقالت المعتزلة: يخلق في هذه الجوارح الكلام، وعندهم المتكلم فاعل الكلام فتكون تلك الشهادة من الله في الحقيقة إلاّ أنه تعالى أضافها إلى الجوارح توسعًا.
وقالوا أيضًا: إنه تعالى ينشىء هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه، ويلجئها أن تشهد على الإنسان وتخبر عنه بأعماله.
قال القاضي: وهذا أقرب إلى الظاهر لأن ذلك يفيد أنها بفعل الشهادة.
وانتصب {يومئذ} بيوفيهم، والتنوين في إذ عوض من الجملة المحذوفة، والتقدير يوم إذ تشهد.
وقرأ زيد بن عليّ {يوفيهم} مخففًا والدين هنا الجزاء أي جزاء أعمالهم.
وقال:
ولم يبق سوى العد ** وإن دناهم كما دانوا

ومنه: كما تدين تدان.
وقرأ الجمهور {الحق} بالنصب صفة لدينهم.
وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو روق وأبو حيوة بالرفع صفة لله، ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصول وصفته و{يعلمون} إلى آخره يقوي قول من قال: إن الآية في عبد الله بن أُبيّ لأن كل مؤمن يعلم {أن الله هو الحق المبين}.
قال الزمخشري: ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله عز وجل قد غلظ في شيء تغليظه في الإفك وما أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعذاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه ما نزل فيه على طرق مختلفة وأساليب متقنة كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلاّ هذه الثلاث لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعًا وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة وأن {ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم} تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا به، وأنه {يوفيهم} جزاء الحق الذي هم أهله حتى يعلموا عند الله {أن الله هو الحق المبين} فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلاّ ما هو دونه في الفظاعة انتهى.
وهو كلام حسن.
ثم قال بعد كلام فإن قلت: ما معنى قوله: {هو الحق المبين}؟ قلت: معناه ذو الحق المبين العادل الذي لا ظلم في حكمه، والمحقّ الذي لا يوصف بباطل، ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء ولا إحسان محسن، فحق مثله أن يتقى وتجتنب محارمه انتهى.
وفي قوله لم تسقط عنده إساءة مسيء دسيسة الاعتزال. اهـ.